ملخص
تصاعدت وتيرة انتهاكات حقوق الصحافيين والمؤسسات الصحافية في تونس منذ إعلان الرئيس قيس سعيد عن إجراءات استثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021، واتخذت أشكالًا متعددة تمثلت في القمع والاحتجاز والملاحقة الأمنية والقضائية والقرارات التقييدية كإغلاق القنوات الفضائية والمؤسسات الصحافية.
وعلى الرغم من تعهد الرئيس سعيد بأن الإجراءات الاستثنائية لن تؤثر على التمتع بالحقوق وممارسة الحريات بأي حال وعلى رأسها حرية الصحافة، إلّا أنّ الانتهاكات المستمرة على أرض الواقع منذ تاريخ إعلانها وحتى تاريخ إصدار هذا التقرير تؤشر على خلاف ذلك تمامًا.
واجه الصحافيون المنخرطون في تغطية تطورات الأزمة السياسية ملاحقات أمنية ومحاكمات عسكرية وحملات تشويه عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تحريض رسمي صدر في بعض الأحيان عن رئيس الجمهورية. شملت مظاهر الاعتداء على العمل الصحافي في تونس إغلاق مكاتب لوسائل إعلام مثل مقر قناة الجزيرة، ومقر تلفزيون الزيتونة المحلي، والتلفزيون العربي، واحتجاز عشرات الصحافيين بتهم مختلفة، والاعتداء على آخرين خلال تغطية الاحتجاجات المناهضة للإجراءات الاستثنائية الرئاسية على الرغم من علم السلطات المسبق بطبيعة عمل المُعتدى عليهم.
دفع تصاعد حدة الانتهاكات بحق الصحافيين والمؤسسات الصحافية نقابة الصحافيين التونسيين إلى اتخاذ خطوات احتجاجية في مواجهة ما اعتبرته توجه الرئيس التونسي في تطويع الإعلام تحت التهديد والسطوة الأمنية.
وبذلك، زجَّت الإجراءات الاستثنائية الرئاسية بقطاع الصحافة في تونس في معترك نزاع غير ضروري، خاصة بعد تعطيل جزء كبير من نصوص الدستور التي تصون الحريات والحقوق، واستبدالها بتدابير استثنائية على هيئة أوامر رئاسية بصبغة تشريعية، وغلَّبت أحكامها على نصوص الدستور في استناد لا يمكن الاعتداد به على الفصل 80 من الدستور التونسي 2014 لحين إنهاء حالة الطوارئ الممتدة منذ 25 يوليو/ تموز 2021.
منهجية التقرير
يغطي التقرير الانتهاكات التي تعرّض لها الصحافيّون والمؤسسات الإعلامية في تونس عقب الإجراءات الاستثنائية التي أصدرها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو / تموز 2021، وحتى 15 أبريل/ نيسان 2022.
بدأ فريق البحث بتوثيق حوادث الاعتداءات على صحافيين ومؤسسات صحافية منذ إصدار الرئيس التونسي قيس سعيد التدابير الاستثنائية والتي أعفى بموجبها رئيس الوزراء هشام المشيشي من منصبه، وجمد عمل البرلمان التونسي، ورفع الحصانة عن أعضاءه لمدة 30 يومًا تم تجديدها بموجب أوامر رئاسية لاحقة، وتجدر الإشارة إلى أنّ البيانات والأرقام الواردة في هذا التقرير تعكس حصرًا الحوادث الي تمكّن فريق البحث من توثيقها والتأكد من صحتها.
يتتبع التقرير تسلسل الأحداث بالملاحظة والرصد والتوثيق، إضافة إلى إجراء سلسلة مقابلات مع صحافيين مستقلين، وآخرين يعملون لدى جهات صحافية محلية وعالمية، وعدد من المدونين على مواقع التواصل الاجتماعي.
أبلغ فريق البحث جميع الصحافيين الذين أجرى مقابلات معهم بالغرض من المقابلة، وطبيعة المعلومات التي سيتم استخدامها ونشرها، وحصل على موافقتهم بذلك.
عمل فريق البحث على التأكد من صحة البيانات التي حصل عليها من خلال المقابلات، بما في ذلك تفاصيل حوادث الاعتداء على الصحافيين واقتحام مؤسسات صحافية وإعلامية.
بجانب المصادر الأولية، يستند التقرير إلى مصادر ثانوية، شملت تقارير ومستندات لجهات محلية، من بينها نقابة الصحافيين التونسيين. بالإضافة إلى مجموعة من أدوات التحقق، كمقاطع فيديو توثيقية، وقرارات صادرة عن الجهات الرسمية التونسية.
يعرض التقرير أبرز أنماط الانتهاكات التي تعرض لها العاملون في مهنة الصحافة والمؤسسات الصحافية بعد فرض الإجراءات الاستثنائية الرئاسية في 25 يوليو/ تموز 2021. كما يستعرض قراءة قانونية لتأثير انتهاكات حقوق الصحافيين على ممارسة حرية الصحافة والتعبير، ويقدّم توصيات من شأنها المساهمة في تعزيز احترام حرية الصحافة والنشر استناداً للدستور التونسي 2014، والعهود والمواثيق الدولية ذات العلاقة.
أولًا: التشريعات والأوامر المقيدة لحرية الصحافة
كافح قطاع الصحافة في تونس بعد الاحتجاجات الشعبية في عام 2011 لاسترداد الحقوق التي كانت مصادرة خلال العقود الماضية، وسجل إنجازًا كبيرًا تمثل في انتزاع تشريعات قانونية تحمي وتصون حقوق الصحافيين، حيث أصدر رئيس الجمهورية المؤقت فؤاد المبزع في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 المرسوم رقم 115 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، والمرسوم 116 المتعلق بإحداث الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري. وعلى الرغم من صعوبة تطبيق المراسيم ومرورها بكثير من المعيقات إلا أنّها دخلت حيّز التنفيذ في 3 مايو / أيام 2013 بعد عام ونصف من إصدارها، ونجحت إلى حد كبير في حماية استقلالية وحرية العمل الصحافي خلال السنوات الماضية.
ومنذ 25 تموز/ يوليو 2021، مثّلت الإجراءات الرئاسية الاستثنائية خطوة إلى الوراء في مجال حرية الصحافة، إذ استندت إليها السلطات لانتهاك حقوق الصحافيين والمؤسسات الصحافية من خلال تقييد الحق في الحصول على المعلومات، وقمع الصحافيين واحتجازهم، وإغلاق مقرات بعض المؤسسات الصحافية، من بينها قنوات فضائية.
أخذت التدابير الاستثنائية الرئاسية أبعاد قانونية آمرة، بعد شمول الأوامر الرئاسية على قواعد قانونية تقيد حرية الصحافة، وتضع معايير للنشر، وتمنع الوزراء من الظهور على الإعلام، حيث وضعت التدابير الاستثنائية الإعلام التونسي تحت وصاية الرئاسة والحكومة إلى حد كبير، ما يعني المس بشكل واضح باستقلالية وحرية العمل الصحافي. ومن أبرز مظاهر ذلك:
1- حدد الأمر الرئاسي 117/2021 في الفصل الخامس من بابه الثاني تنظيم الإعلام والصحافة والنشر كأحد المهام التشريعية للأوامر الرئاسية الاستثنائية، حيث ورد في النص "تتخذ شكل مراسيم، النصوص المتعلقة:
- بتنظيم الإعلام والصحافة والنشر،
- الحريات وحقوق الإنسان."[1]
منذ الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021 مارست السلطات التونسية ضغوطات كبيرة على الإعلام شملت إغلاق مؤسسات صحافية والاعتداء على الصحافيين، ولكنها كانت تمارس تلك الانتهاكات في إطار إجرائي شامل لوقف الانتقادات ضد الإجراءات الرئاسية ولمنع الأصوات المعارضة من التأثير في الرأي العام. لكن بعد إصدار هذا الأمر، أصبحت الانتهاكات التي تستهدف حرية الصحافة تُمَارس ضمن إطار تشريعي قانوني يدَّعي تنظيم الإعلام والصحافة والنشر، وينظم حالة الحريات العامة.
فتح هذا الأمر الرئاسي الباب على مصراعيه لتقييد حرية الصحافة وتجريم تداول المعلومات، وهو ما كان واضحًا في المراسيم التي صدرت عن الرئاسة التونسية والحكومة، مثل المنشور رقم 14 لسنة 2022 المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة، والمنشور رقم 20 لسنة 2021 المتعلق بالتفاوض مع النقابات التي أخذت قوتها من الأمر رقم 117/ 2021 بشكل أساسي.
هيأ الأمر 117/ 2021 الظروف للرئاسة التونسية لإضفاء شرعية على الإجراءات التقييدية ضد الصحافة لتطويعها أو التخلص منها بفرض عقوبات صارمة ضمن أوامر تتعلق بتنظيم الصحافة بشكل مباشر وفقاً للمكنة القانونية التي ابتكرها الأمر الرئاسي، أو من خلال الأوامر الاستثنائية الأخرى التي تتعلق بقضايا مختلفة، والتي جرَّمت تداول المعلومات المتعلقة بموضوع الأمر الاستثنائي وقرنتها بعقوبة جزائية شديدة.
ويعتبر الأمر 117/ 2021 حجر الأساس في الاعتداء على التشريعات الوطنية التونسية الناظمة للصحافة، وهو المنطلق في استحداث إجراءات استثنائية تنال من حرية الصحافة والنشر وتداول المعلومات.
وبالاطلاع على تسلسل الإجراءات الاستثنائية المرتكزة على الأمر 117/ 2021، يمكن القول إنّ الاستهداف الشامل لحرية واستقلالية الصحافة بات أمرًا محتومًا بعد استهداف القضاء وحل مجلسه الأعلى وتعديل هيئة الانتخابات وتقييد قطاع التجارة وغيرها من مؤسسات الدولة التي يهدف الرئيس سعيد فيما يبدو للسيطرة عليها.
وفيما يتعلق بإمكانية الاعتراض على تقييد الحريات الذي أتى عليه الأمر، فقد حصَّن الرئيس سعيد أمره من خلال نص الفصل السابع "لا تقبل المراسيم الطعن بالإلغاء"[2]، ما يعني أن جميع الأوامر التي ستصدر ضد الصحافة وحرية النشر والتعبير لاحقاً هي أوامر محصنة وغير قابلة للنقاش في خطوة ستزيد من تعقيد الموقف على الصحافيين والمؤسسات الصحافية التي قد تتعرض للتعطيل أو الإغلاق، وستجعل احتكامهم للقضاء أمراً غير مجدٍ.
2- رسَّخ المرسوم عدد 14 لسنة 2022 المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة السيطرة التي فرضها الأمر الرئاسي 117/2021 على مختلف القطاعات ومن بينها الصحافة وحرية النشر وتداول المعلومات، فقد انطوى المرسوم 14/ 2022 على تقييد لحرية تداول الأخبار المتعلقة بالأوضاع التجارية في تونس مستتراً بنصوص فضفاضة لا يمكن التعويل عليها في تحديد عناصر جرم ترويج الأخبار الكاذبة، فوفقاً لصياغة الفصل الثالث من الأمر الرئاسي قد يختلط ترويج الأخبار الكاذبة مع حرية النشر ومناقشة القضايا المتعلقة بأسعار السلع والخدمات بما يجعل تجريم حرية النشر وتداول المعلومات بالإمكان، حيث ورد في النص "ويعد مرتكبا لجريمة المضاربة غير المشروعة المنصوص عليها بهذا المرسوم ويعاقب بالعقوبات المقررة لها كلّ من: "روج عمدا أخبارًا أو معلومات كاذبة أو غير صحيحة لدفع المستهلك للعزوف عن الشراء أو قصد إحــداث اضــطـراب في تزويد الســوق والترفيــع في الأســعار بطـريقة مباغتة وغير مبررة".
وفي ظل اضطراب أسعار السلع والخدمات في تونس في الوقت الحالي، فإنّ تداول المعلومات حول القضايا الاقتصادية سيخضع فيما يبدو للمزاج السلطوي، إذ قد تعاقب السلطات كل من ينشر أخبارًا اقتصادية لا تتوافق مع سياستها، ما سيحد بالضرورة من حرية تداول المعلومات وحرية التعبير عن الرأي والنشر.
بالإضافة إلى ما سبق، فقد أخذت المراسيم الرئاسية انعكاسات قانونية أكثر خطورة، فقد شرعن المرسوم الرئاسي 14/2022 تكميم الأفواه ومنع تناول القضايا العامة تحت طائل مسؤولية نشر الأخبار الكاذبة والترويج للإشاعات، فيما يخشى أن يكون هذا المرسوم مقدمة لمراسيم أخرى تطال قطاع الصحافة بشكل مباشر، خاصة في ظل تصاعد حراك نقابة الصحافيين التونسيين ومطالباتها باحترام الحق في حرية الصحافة والنشر.
3- قيَّد المنشور عدد 20 لسنة 2021 حول التفاوض مع النقابات تعاون المؤسسات الحكومية مع الأجسام النقابية في إبرام الاتفاقيات والأنشطة بموافقة رئاسة الحكومة.
واشترط المنشور الصادر عن رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن التعاون بين الوزارات والمؤسسات والمنشآت العمومية والأجسام النقابية بضرورة التنسيق المسبق قبل مرحلة التفاوض للحصول على ترخيص منها يجيز البدء بالتفاوض لإتمام التعاون.
واشتمل المنشور على شرط إعداد تقرير شامل من الجهة الحكومية توضح فيه تفاصيل التفاوض والغرض من التعاون، وعرضه على رئاسة الحكومة لدراسته وإصدار القرار بالموافقة أو الرفض.
واعتبر المنشور كل الاتفاقات التي تبرم دون مراعاة هذا أحكام المنشور 20/2021 هي اتفاقات لاغية ولن يتم العمل بموجبها أو تغطيتها من ناحية مالية.
يعد هذا المنشور تقييداً جديداً يُفرض على التعاون ما بين الجهات الحكومية والرسمية وبين نقابة الصحافيين التي تستند في عملها إلى التنسيق الحثيث مع المؤسسات الحكومية في تغطية الفعاليات الصحافية، بالإضافة إلى أن أحكام المنشور رقم 20/2021 سيساهم في التعتيم على الأنشطة والتفاعل الحكومي مع الشعب الذي يستقي معلوماته بشكل أساسي من المؤسسات الصحافية التي لن يسمح لها بالوصول إلى المعلومات في ظل تقييد التعاون مع المؤسسات الرسمية، ويُخشى أن يحد هذا المنشور من تعامل المؤسسات الحكومية مع المؤسسات الصحافية خشية الوقوع في مخالفة تعليمات رئاسة الحكومة.
تكمن الخطورة في هذا المنشور الحكومي والمنشورات المشابهة له أن تطبيقها لمدة من الزمن يُصعب من مهمة إزالة آثارها بعد وقف العمل بها، فالتواصل المستمر بين النقابات والأجسام الحكومية يساعد قطف ثمار التعاون سريعاً، ومع وقف التواصل أو تقييده بإجراءات طويلة يوقف عجلة تطور المؤسسات ويلزم معه جهوداً كبيرة لإعادة جسور الثقة والتعاون في حال استعادة الوضع الطبيعي.
4- أصدرت رئيسة الوزراء التونسية نجلاء بودن في 10 ديسمبر / كانون الأول 2021 المنشور عدد 19 المتعلق بقواعد العمل الاتصالي للحكومة.
ووجهت بودن من خلال هذا المنشور تعليمات للوزراء وكتاب الدولة بضرورة التنسيق مع مصالح الاتصال بمكتب رئاسة الحكومة عند التعامل مع وسائل الاعلام، وأمرت بمنع الظهور عبر القنوات التلفزيونية والإذاعات التي تخالف قرارات الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، وأكدت على اعتبار هذا المنشور الزامي للوزراء وكتاب الدولة والجهات الرسمية التابعة لهم.
حمل هذا المنشور مجموعة من القواعد التي أرادت السلطات التونسية تثبيتها في مواجهة العاملين في السلطة التنفيذية ومواجهة المؤسسات الصحافية ويمكن لنا إجمالها فيما يلي:
- لم يعد تقييد عمل الصحافة في تونس حكراً على الرئاسة بل ستشارك فيه السلطة التنفيذية الممثلة في الحكومة، مما يزيد الضغط على المؤسسات الصحفية التي لن ترغب في مواجهة مؤسسات الدولة الأمنية والسياسية.
- ظهور الوزراء والمسؤولين الحكوميين على التلفزة والإذاعات من عدمه سيعتمد على درجة رضا الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري – وهي الهيئة التي تسيطر عليها الرئاسة التونسية منذ اليوم الأول من الإعلان عن التدابير الاستثنائية- على الصحافيين والكيانات الصحفية، مما يهيئ الظرف لإقصاء الصحافيين والمؤسسات الصحفية التي تضمنت برامجها انتقادات للإجراءات الرئاسية.
- الحكومة التونسية الجديدة برئاسة بودن هي انعكاس للإجراءات الاستثنائية، وستظل أداة دعم إنفاذ تلك الإجراءات بشتى الوسائل والطرق بما في ذلك مقاطعة الاعلام، أو اتخاذ إجراءات أشد وطأة على المؤسسات الصحافية والقنوات التي تستمر في مخالفة نهج الرئاسة التونسية.
- سعى المنشور إلى إرهاب الوزراء أو المسؤولين من القيام بالتواصل الإعلامي مع أي جهة كانت بدون العودة إلى مكتب رئاسة الوزراء وحملهم بشكل أو بآخر نتائج مخالفة مضمون المنشور، ما سيحرم المواطن التونسي من حقه في الحصول على المعلومات من مصادرها الرسمية.
ومن خلال الانتهاكات التي وثقها فريق التقرير، بدا أن السلطات الرسمية قد طوعت أيضًا تشريعات أخرى بشكل مقصود لتحقيق أهداف الإجراءات الاستثنائية في تجريم العمل الصحافي الذي لا يتماهى مع توجهات الرئاسة التونسية، وتقييد حقوق النشر والتدوين، واستخدام القوانين الجنائية والقوانين العسكرية خير شاهد على عدم تورع الرئاسة التونسية في الإضرار بالصحافة والصحافيين وانتهاك نصوص الدستور التونسي 2014، والقوانين الوطنية الناظمة لعمل الصحافة.
وبتتبع قرارات إغلاق مؤسسات صحافية مرخصة من قبل السلطات التونسية الأمنية كقناة الجزيرة القطرية دون إبراز حكم قضائي، أو اتخاذ الإجراءات القانونية السليمة، فقد غيَّبَتْ السلطات الأمنية دور الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري في فرض احترام جميع السلطات والمؤسسات والأطراف المتدخلة للقواعد والأنظمة المنطبقة على قطاع الاتصال السمعي والبصري، وزجت بوسائل الإعلام في الصراع السياسي على نحو يتعارض مع استقلالية العمل الصحافي وحرية الإعلام.
وفي إفادة مهدي الجلاصي -نقيب الصحافيين التونسيين لفريق التقرير حول واقع الصحافة بعد الإجراءات الاستثنائية الرئاسية قال:
"أثَّرت الإجراءات التي قام بها الرئيس قيس سعيد بتاريخ 25 يوليو / تموز 2021 على حرية الصحافة وهناك تراجع كبير في هامش الحريات وتعتيم كبير على حق النفاذ إلى المعلومة، وهناك مضايقات على العمل الميداني للصحافيين مثل المنع من العمل من قبل الجهات الأمنية سواء بالاعتداءات المباشرة أو سحب المعدات أو من قبل متظاهرين محسوبين على الرئيس أو المعارضة وهناك محاكمات لأربعة صحافيين وتدخل سافر في عمل الخط التحريري للتلفزة الوطنية.
وأكد الجلاصي: قامت النقابة بالعديد من الإجراءات مثل التواصل المباشر مع الدولة واللقاء بالعديد من الوزراء والمسؤولين، وتجاوبت معنا بعض الوزارات وخصوصاً فيما يتعلق بحق النفاذ إلى المعلومة ولكن رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية ما زالتا بعيدتان عن ذلك، كما تم تخصيص وحدة من وزارة الداخلية لحماية الصحافيين، ونظمنا حملات مناصرة للدفاع عن حق الصحافيين التونسيين في ممارسة عملهم والتعبير عن آراءهم بالإضافة إلى تنظيم الوقفات الاحتجاجية للوقوف ضد الانتهاكات الموجهة للصحافيين وخصوصاً ضد حالات محاكمة الصحافيين أمام المحاكم العسكرية وتوقيفهم، ومع ذلك ما تزال الانتهاكات مستمرة مثل التضييق على العمل والمنع من العمل وما زالت هناك سياسة عامة معادية للعمل الصحافي.
ثانيًا: الانتهاكات الماسة بحرية العمل الصحافي
سجلت الإجراءات الاستثنائية الرئاسية انعكاساً سريعاً على حرية الصحافة في تونس في اليوم التالي من إصدارها بعد إغلاق مكتب قناة الجزيرة الفضائية وطرد جميع العاملين فيها، وإقالة المدير العام لمؤسسة التلفزة التونسية محمد الأسعد الداهش من منصبه في 28 يوليو/ تموز، واحتجاز الشرطة بعد يوم واحد من ذلك للمبعوثة الخاصة لصحيفة نيويورك تايمز فيفيان يي لعدة ساعات أثناء قيامها تغطيتها الأحداث في أحد أحياء العاصمة تونس. كما تعرض عدد من الصحافيين إلى الاعتداء وتكسير معداتهم من قبل متظاهرين أثناء تغطيتهم لوقفة أعضاء حزب النهضة للمطالبة بالتراجع عن قرار تجميد البرلمان.
وظهرت بوادر تردي وضع حرية الصحافة في تونس قبيل الإعلان عن الإجراءات الرئاسية الاستثنائية بالتضييق على بعض الصحافيين والمدونين، وتنامى هذا التردي بشكل أكبر بعد الإجراءات الاستثنائية في أواخر يوليو/2021، وقيام السلطات التونسية بخطوات تصعيدية غير مسبوقة تجاه الصحافيين والقنوات الفضائية التي بثت برامج تضمنت انتقادات لتدابير قيس سعيد الأخيرة، وما يميز الانتهاكات التي جرت بعد الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية أنها تمت بغطاء رسمي ضمن جملة الإجراءات التي وصفها الرئيس قيس سعيد بأنها تدابير ضرورية تدفع خطراً داهماً على البلاد، ما جعل ممارسة الحق في حرية الصحافة في تونس منوطاً بالانحياز إلى صف الرئيس سعيد بغض النظر عن الآراء والمواقف الأخرى، في خطوة لإحكام السيطرة على الصحافة التي تعتبر السلطة الرابعة، بعد سيطرته على السلطات الثلاث كافة من خلال التدابير التي أقالت حكومة المشيشي، وعلقت عمل البرلمان المنتخب، وأعفت مجلس القضاء الأعلى من مهامه.
وشكلت الإجراءات اللاحقة على إصدار الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو / تموز 2021 ضربة بحق العمل الصحافي في تونس، وتقليصاً لمساحة التعبير عن الرأي عبر المنابر التونسية الإعلامية، حيث توالت انتهاكات حقوق الصحافيين في تونس بعد الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية الرئاسية في 25 يوليو/ تموز 2021 لتشمل مظاهر متعددة وثقها فريق التقرير وفقاً لما يلي:
-
إغلاق المؤسسات الصحافية
استهلت السلطات التونسية إجراءاتها ضد الصحافة في تونس بإغلاق مكتب قناة الجزيرة القطرية بعد يوم واحد من الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية الرئاسية، حيث اقتحمت قوات الأمن التونسية مكتب قناة الجزيرة وأغلقته، دون إبراز أمر قضائي، وطردت جميع الصحافيين العاملين فيه وصادرت مفاتيحه.
وفي إفادة لطفي حجي – مدير مكتب الجزيرة بتونس لفريق التقرير قال:
"أغلق مكتب قناة الجزيرة صبيحة يوم 26 يوليو/ تموز مباشرة بعد أن حضر 30 من رجال الأمن إلى المكتب واقتحموه فجأة، مما شكل رعباً للموظفين، وتم إخراج كل الموظفين دون إبراز أي حكم قضائي أو إداري أو من الهيئات المختصة بالإعلام، حيث كان القرار أمنياً فقط.
وأضاف "قرار إغلاق مكتب القناة تعسفي وغريب، فنحن لدينا تنظيم إداري ومالي ممتاز مع الهيئات المختصة بقطاع الإعلام، ولم نتلق أي إشعار أو ملاحظة منذ بداية عملنا في تونس قبل 11 عامًا، وعلاوة على إغلاق المكتب فإنهم حرمونا من رخصة التصوير التي تتجدد شهرياً، وبطاقة الاعتماد السنوية. فوضنا الأمر لنقابة الصحافيين، ولكنّنا ما نزال حتى الآن ممنوعين من النشاط، ونعمل بطاقة منخفضة من داخل مقر نقابة الصحافيين.
وتابع "ما يزال عناصر الأمن متواجدون في مكتبنا على مدار الساعة ولا نستطيع الدخول إليه. وعلاوة على ذلك، قام أعوان الأمن بمراقبة محيط مقر نقابة الصحافيين بينما كنا نقوم ببث مباشر للأحداث.
"في الشهر الماضي قامت مصالح الحكومة برئاسة الحكومة بتجديد رخصة التصوير بشكل شهري وبطاقة الاعتماد بشكل سنوي، وما يقلقنا أكثر من كل ما جرى معنا أنه لا يوجد أي تفسير لما حدث معنا".
وقال: "نلاحظ استسهال رجال الأمن الاعتداء على الصحافيين بعد 25 يوليو/ تموز 2021، ونخشى بشكل حقيقي أن يتم تقويض مكسبنا الرئيس من الثورة التونسية وهو حرية التعبير، وخصوصًا في ظل إقحام القضاء العسكري في مجال محاكمة الصحافيين وهو الخطر الأكبر الذي نتخوف منه".
وفي 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، اقتحم أعضاء من هيئة الاتصال السمعي والبصري (الهايكا) مقر قناة "الزيتونة" المحلية، بزعم أنّها تبث "خارج إطار القانون". وقـال مديـر القنـاة سـامي الصيـد خـال لقـاء صحافـي إن قـرار إغـلاق القنـاة واقتحـام قـوات الشـرطة لمقراتهـا وحجــز معــدات البــث جــاء بنــاء علــى قــرارات وتعليمــات ممــن وصفهــم بالانقلابين.[3]
وأضــاف أن المزاعــم بخصــوص عمــل القنــاة بــدون ترخيــص غيــر صحيحــة، إذ ّقدمـت إدارة القنـاة منـذ عـام 2013 طلبـاً بترخيـص البـث مــن الهيئــة العليــا لتنظيــم القطــاع الســمعي البصــري، لكنهــا امتنعــت عــن منــح الترخيــص لاعتبارات وصفهــا ّأنهــا غيــر مقبولــة ولا منطقيــة.
فيما تابعت الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري حملتها تجاه المؤسسات الإعلامية لتقوم في 27 أكتوبر / تشرين الثاني 2021 بإغلاق قناة نسمة، وإذاعة القرآن الكريم.[4]
وأعلنت عن حجز معدّات قناة نسمة بداعي استنفاد كافّة القرارات والإجراءات المتعلقة بالحصول على إجازة إحداث واستغلال قناة تلفزة خاصة التي تمّ الانطلاق فيها منذ سنة 2015 والمتمثّلة في التنبيه والعقوبات المالية.
وبررت الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري قرارها إيقاف بث إذاعة القرآن الكريم باعتبارها تقوم بتوظيف الإذاعة لترويج خطابات كراهية وتحريض على العنف والكراهية.
يجدر بالإشارة إلى أن الصفحة الرسمية لإذاعة القرآن الكريم أعلنت عبر صفحتها على فيسبوك في 22 نوفمبر / تشرين الثاني 2021 استئناف بثها وانتصارها على الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على حد وصفها.[5]
-
المحاكمات العسكرية
هيأت الإجراءات الرئاسية الاستثنائية المناخ للسلطات التونسية لتنفيذ اعتداءات عديدة على الصحافيين ووسائل الإعلام، كان من أخطرها محاكمة عدد من الصحافيين أمام محاكم عسكرية. في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، اعتقلت الشرطة التابعة للفرقة الوطنية لمكافحة الإجرام مقدم برنامج حصاد 24 بقناة الزيتونة عامر عياد، إثر اتهامه بـ"التآمر المقصود به تبديل هيئة الدولة" وقد تم الإفراج المؤقت عنه في 25 نوفمبر/تشرين ثان الماضي، عقب توقيف دام نحو 7 أسابيع.
في 8 أبريل/ نيسان 2022، قضت المحكمة العسكرية بتونس، بسجن الصحافي "عامر عياد" 4 أشهر، والنائب البرلماني "عبد اللطيف العلوي" 3 أشهر، بتهم تشمل "الحط من معنويات الجيش، وإطلاق تصريحات مناهضة لرئيس الجمهورية".[6]
وفي إفادة الصحافي عامر عياد لفريق التقرير قال: كنت أقدم برنامج حصاد 24 على قناة الزيتونة وهو برنامج سياسي ناقد، وكان يركز على النقد الجريء للإجراءات التي أعلنها الرئيس قيس سعيد بتاريخ 25 يوليو/2021. في حلقة يوم 1 أكتوبر انتقدت تعيين رئيسة الحكومة، وبعدها تعرّضت لحملة تحريض من بعض الصفحات الإلكترونية التابعة لأنصار الرئيس، وعند الساعة السادسة إلا ربع صباح يوم الأحد 3 أكتوبر، داهمت فرقة أمنية منزلي واقتادتني من مدينة المنستير إلى تونس العاصمة.
وأضاف "وجه القضاء العسكري لي عدة تهم بينها التآمر على أمن الدولة الداخلي، والدعوة للعصيان، والمس بسمعة الرئيس، وارتكاب أمر موحش بحقه، وبعض التهم الخطيرة التي قد تصل عقوبتها إلى الإعدام وتفاجأت بتوقيف النائب على اللطيف العلوي الذي كان ضيفي في ذات الحلقة، وعلى إثر البحث الابتدائي في فرقة مقاومة الإجرام بحي الخضرا تم إصدار بطاقة احتفاظ بحقي وتم توقيفي في معتقل بوشوشة لمدة 3 أيام بصحبة النائب عبد اللطيف العلوي قبل عرضنا على قلم التحقيق العسكري يوم 5 أكتوبر وعلى إثر المرافعات واستنطاقي من قبل قلم التحقيق العسكري تم إصدار بطاقة إيداع بحقي في سجن المرناقية واستمر احتجازي لمدة 57 يوماً، حيث في يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 تمت إحالتي إلى المحكمة العسكرية التي أفرجت عني بشكل مؤقت.
وحول ظروف الاحتجاز، قال: "خلال مدة سجني أصبت بمرض السكري، وأرادت إدارة السجن تحويلي مكبل اليدين إلى القسم الاستعجالي بمعهد التغذية وهو ما رفضته وسبب لي مضاعفات لاحقاً"
وتابع "في 8 أبريل/ نيسان 2022، حُكم عليّ بالسجن لأربعة أشهر بعد التنازل عن بعض التهم، وتم الحكم على النائب عبد اللطيف العلوي بالسجن لثلاثة أشهر، وقد تم استئناف الحكم من طرفنا وطرف النيابة العسكرية التي استأنفت القرار بعد يوم واحد من صدور الحكم لأنها لم تكتفِ بقرار السجن لمدة 4 أشهر، حيث أنها تسعى إلى رفع مدة الحكم وما زلنا ننتظر ما ستسفر عنه نتيجة الاستئناف.
وأكّد "إحالتي إلى القضاء العسكري سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ التونسي حيث كنت أول صحفي منذ الاستقلال يحاكم أمام المحاكم العسكرية بتهم تتعلق بحرية التعبير، وفي النهاية الأمر موكول للقضاء.
وعلى الرغم من استناد المحاكم العسكرية إلى حالة الطوارئ المعلنة في محاكمة عدد من المدنيين بينهم محامون وأعضاء برلمان وصحافيون، فقد سعى الرئيس سعيد لإخلاء مسؤوليته عن الأحكام الصادرة ضد المعارضين والمنتقدين خلال اجتماعه مع رئيسة الحكومة نجلاء بودن في 5 مارس/آذار 2022، حين أكد أنّه "لم يتدخل في الأحكام التي صدرت عن القضاء العدلي أو القضاء العسكري، وأنّه لم يرفع دعوى في شأن أحد من أجل رأيه أو من أجل مواقفه".[7]
ويشكل عرض ومحاكمة الصحافيين والمدونين على المحاكم العسكرية تعدياً على المبادئ القانونية المستقرة بحق الأشخاص في محاكمتهم أمام القاضي الطبيعي، عدا أن توقيفهم واتخاذ الإجراءات القانونية بحقهم من النيابة العسكرية هو مصادرة لضمانات المحاكمة العادلة التي نص عليها الدستور التونسي 2014.
ولما كان اختصاص المحاكم العسكرية مقتصراً على نظر الجرائم العسكرية وفقاً للفصل 110 منه والذي نص على: "المحاكم العسكرية محاكم متخصّصة في الجرائم العسكرية. ويضبط القانون اختصاصها وتركيبتها وتنظيمها والإجراءات المتبعة أمامها والنظام الأساسي لقضاتها"، فإنّه لا يجوز لها نظر أي قضية تخرج عن ولايتها الموضوعية بما يجعل كل ما ينتج عنها من إجراءات وأحكام باطلة بنص الدستور.
-
الاعتداءات الجسدية واللفظية
ارتفعت معدلات الاعتداءات الجسدية واللفظية على الصحافيين بعد الإجراءات الاستثنائية الرئاسية في تونس، فقد اشتكى عدد كبير من الصحافيين من تعرضهم للاعتداء الجسدي خلال تغطية الاحتجاجات والأحداث التي تلت إعلان التدابير الاستثنائية في 25 يوليو/ تموز 2021، وقد لوحظ مشاركة بعض المتظاهرين الموالين للرئيس التونسي في الاعتداء على الصحافيين، ما يؤشر على وجود حالة تحريض –رسمية في بعض الأحيان- ضد الصحافيين من خلال النظر إليهم كخطر يتهدد سلامة وأمن البلاد.
ولم تقتصر الاعتداءات الجسدية على الصحافيين خلال تغطيتهم للأحداث الميدانية فحسب، فقد تعرض مجموعة من الصحافيين للاعتداء والتفتيش الجسدي والتهديد اللفظي خلال احتجاز بعضهم تعسفياً وكذلك خلال اقتحام السلطات الأمنية لمقرات المؤسسات الصحافية التي تم إغلاقها.
وهدفت الاعتداءات الجسدية ضد الصحافيين على ما يبدو لعرقلة عملهم ومنعهم من تغطية الأحداث الميدانية، وقد تهدف كذلك لترهيب العاملين في المجال الصحافي بشكل عام، وثنيهم عن مواصلة تغطيتهم لتطورات الأزمة السياسية في البلاد.
تجاهلت الرئاسة التونسية على مدار الأزمة الممتدة منذ 25 يوليو / تموز 2022 الاعتداءات على الصحافيين، ولم تستنكرها حكومة "بودن"، إذ لم تعلن وزارة الداخلية عن اتخاذ إجراءات عقابية ضد عناصرها المعتدين، ما دفع نقابة الصحافيين التونسيين إلى البدء بخطوات احتجاجية للدفاع عن استقلالية الإعلام العمومي ورفض تطويع الإعلام.
وفي إفادة للصحافية "زينة الماجري" لفريق التقرير قالت: "أثناء الاحتفال بذكرى الثورة بتاريخ 14 يناير، والتي قرر الرئيس تغييرها بشكل أحادي إلى 17 ديسمبر، نشرت وسائل إعلام تابعة للأمن أنّ هناك تخريبًا من قبل المشاركين بذكرى الاحتفال بالثورة، نزلت للتحقق من ذلك وأخذ الصور بحكم عملي كمدققة معلومات حيث كنت أصور في شارع محمد الخامس بالقرب من شارع الحبيب بورقيبة الذي كانت تقام فيه الفعالية الرئيسية، وكان هناك مجموعة من أنصار حركة النهضة لا يتجاوزون 30 شخصاً، يحيط بهم عدد كبير من الأمنيين بسياراتهم، وأمنيين بأزياء مدنية ولديهم طائرة درون توثق الحدث، وقد باشروا بضرب المشاركين في الفعالية، وعلى إثر ذلك قمت بعمل بث مباشر عبر "فيسبوك" لتوثيق الحدث، فباغتني أحد أفراد الأمن وأخذ هاتفي مني عنوة وأخبرني بأنني أصور بشكل غير قانوني على الرغم من أنني صحافية وأتبع لنقابة الصحافيين وأتمتع بالحماية الممنوحة للصحافيين.
وأضافت "الماجري": بعد ذلك أعادوا لي هاتفي وطلبوا مني عدم التصوير، فعاودت التصوير مرة أخرى حتى أقوم بواجبي، وعندها حضر 6 من رجال الأمن برفقة شرطية وقاموا بضربي واقتيادي إلى سيارة تابعة للأمن ومن ثم نقلوني إلى مركز أمن وسط العاصمة، وهناك شاهدت أن هناك أكثر من 50 موقوف على خلفية مشاركتهم بالفعالية، وكانت طريقة التعامل معي سيئة جداً حيث تعرضت للاعتداء الجسدي من قبل أفراد الأمن وإلى الاعتداء اللفظي أسوة ببقية الموقوفين.
وفي إفادة أخرى لصحافي (فضل عدم الكشف عن اسمه)، قال: "جرت ملاحقتنا خلال وبعد تغطيتنا لجلسة البرلمان واضطر عدد منا للعمل دون الكشف عن هويته. خلال الأشهر الماضية، كنا نعمل تحت التهديد طوال الوقت، ونحاول تجنب التعرض للمضايقات، فاليوم أصبح الصحافي متهم حتى تثبت براءته"
وفيما يتعلق بالاعتداءات التي تأخذ شكلاً عقابياً لممارسة المؤسسات الصحافية دورها في تغطية الأحداث، أخبرت الصحافية "وجدان بو عبدالله" رئيسة تحرير موقع "بوابة تونس" فريق التقرير أنّ السلطات التونسية تعمدت مضايقة صحافيي "البوابة" بعد تغطية الجلسة الافتراضية لنواب البرلمان حيث قالت: "بعد نقلنا للجلسة الافتراضية لمجلس النواب، تعرض الصحافيون العاملون في موقع بوابة تونس لمضايقات مثل المنع من التصوير، والاعتداء عليهم بشكل خاص، وقد تعرض أحد الصحافيين التابعين للبوابة في إحدى المظاهرات لسحبه من الخلف بشكل عنيف من قبل قوات الشرطة رغم ارتدائه سترة الصحافة، ما أدى إلى فقدانه توازنه".
وأضافت "أصبح الصحافيون يمارسون نوعاً من الرقابة الذاتية خشية من تعرضهم للمضايقات الرسمية والمحاكمات، وتبعاً لذلك أصبح الجو برمته غير ملائم لممارسة العمل الصحافي".
وكان المرصد الأورومتوسطي قد وثق شهادة سابقة" لبوعبد الله" حول تهديدات يتلقاها صحافيون في تونس حيث قالت فيها : "منذ 25 يوليو/ تموز 2021، هناك تهديدات تصلنا صراحة سواء على حسابتنا الشخصية عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو التهديدات التي يتلقاها طاقمنا خلال عمله الميداني، ورغم حمله شارة الصحافة بوضوح وتغطيته لتجمعات أنصار الرئيس التونسي، إلا أنّه يتعرض للمضايقة بشكل مستمر".
وأضافت "لم نرتكب أي جريمة حينما نقلنا جلسة البرلمان. نحن ننشر مختلف وجهات النظر، ونعمل بشكل قانوني وفق مقتضيات الدستور التونسي. دون مبالغة، فإنّ قطاع الصحافة الأكثر تضررًا في الأشهر الماضية في تونس. كل المكاسب التي حققناها بعد الثورة -وهي ثمار نضال أجيال- اضمحلت. صارت البيئة غير مناسبة للعمل الصحافي لا سيما بعد وعيد الرئيس أمس صراحة للإعلام".
-
الاحتجاز التعسفي
أوقفت السلطات التونسية عددًا من الصحافيين خلال تغطيتهم للمظاهرات الرافضة للإجراءات الاستثنائية، وقد تأكّد فريق التقرير من اعتقال 14 صحفيًا منذ إعلان الإجراءات الاستثنائية وحتى أبريل/ نيسان 2022، حيث تعرّضوا للاحتجاز التعسفي، ومنهم من نقلته إلى مراكز التحقيق لاستكمال الإجراءات معه، ولوحظ ارتفاع عدد شكاوى الصحافيين الذين تعرضوا للاحتجاز التعسفي بعد إعلان الرئيس قيس سعيد عن الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو / تموز 2021.
وبالنظر إلى حالات الاحتجاز التعسفي التي وثقها فريق التقرير فإنّ الاحتجاز كان يهدف لعرقلة تغطية الأحداث الميدانية، وبالتالي انتهاك حق الحصول على المعلومة.
ومن جهة أخرى فقد أخذ الاحتجاز التعسفي في بعض حالاته طابعاً عقابياً ضد الصحافيين والمدونين الذين انتقدوا إجراءات الرئاسة التونسية، أو دعوا لإصلاح المنظومة السياسية.
واتسع نطاق الاحتجاز التعسفي ليطال الصحافيين الذين ينشطون في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والصحية، ما يؤشر على وجود ضوء أخضر لقوى الأمن التونسية لتقييد عمل الصحافة بمختلف تخصصاتها.
وفي إفادة الصحافي طارق العبيدي لفريق التقرير قال: "بتاريخ 23 مارس/ آذار 2022، ذهبت برفقة زميلي المصور سيف الكوساني لتغطية حدث تضامني لجماهير نادي الإفريقي مع المشجع عمر العبيدي الذي جرى قتله من قبل قوات الأمن خارج ملعب رادس في عام 2018، وفي بداية الحدث التضامني قامت القوات الأمنية بأخذ الهويات الشخصية من الحاضرين وطلبوا منا إبراز إذن التصوير وقمنا بتزويدهم بإذن التصوير الخاص بنا والصادر بشكل رسمي من مؤسستنا ولكنهم رفضوا الإذن وأخبرونا بأنه يتوجب علينا أخذ من وزارة الداخلية".
وتابع العبيدي: "قاموا بسؤالنا عن مصدر المعلومة الذي أخبرنا بأن هناك حدثاً تضامنياً سيتم تنظيمه، ووحين رفضنا الإفصاح عن مصدر معلوماتنا، كرر العناصر طلبهم بمعرفة مصدر المعلومة من رئيس التحرير وقد رفض بدوره أيضاً. تم اقتيادنا بعد ذلك لمركز فرقة الشرطة العدلية برادس مليان وخضعنا للتحقيق هناك، ومن ثم تم إحالتنا إلى محكمة بن عروس بداعي التصوير دون الحصول على ترخيص".
وقد علم فريق التقرير أنّ عدداً من الصحافيين المحتجزين تعسفياً قد تعرضوا للإهانة والوصم بأوصاف كيدية مثل الخيانة، ومنهم من تم تعرض للتهديد بتجديد الاحتجاز في حال مخالفة الأوامر الأمنية.
أخبر الصحافي "خليفة القاسمي" الذي يعمل بإذاعة "موازييك" فريق التقرير:
"نشرت بتاريخ 17 مارس/ آذار 2022 خبرًا على موقع الإذاعة الرسمي يتعلق بكشف خلية إرهابية في محافظة القيروان بعد جمع المعلومات من مصدر أمني موثوق. بعد ذلك بيوم، تم استدعائي من فرقة أمنية مختصة بمدينة تونس العاصمة بحضور محامٍ خصصته لي النقابة الوطنية للصحافيين. توجهت للفرقة المذكورة، وخضعت هناك لتحقيق استمر يومًا كاملًا على خلفية الخبر الذي نشرته، وتعرضت خلال التحقيق للتخوين والطعن في وطنيتي، ومارسوا عليّ ضغوطًا كبيرة للإفصاح عن مصادري".
وأضاف "بعد ذلك تم إيقافي من النيابة العمومية التابعة للقطب القضائي لمكافحة الإرهاب وقد تم إحالتي إلى مكان آخر، وقررت النيابة العمومية بالتعاون مع الفرقة الأمنية المختصة إيقافي " 5 أيام " وكل ذلك بهدف الإفصاح عن مصدر الخبر الذي قمت بنشره، وهو ما رفضته لأنه ذلك يخالف القانون وخصوصاً المرسوم 115 يتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر الذي يحظر الاعتداء على سرية المصادر سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، إلا أن النيابة العمومية تجاهلت هذا المرسوم وقامت بتوقيفي على ذمة تهم تتعلق بقانون الإرهاب.
وتابع "أثناء فترة التوقيف كان يتم التحقيق معي بشكل متكرر للإفصاح عن مصدري، وردًا على ذلك قررت الدخول في إضراب عن الطعام اعتبارًا من يوم 19 مارس/ آذار 2022، وبعد ذلك قام المصدر الأمني بالإفصاح عن نفسه، وقد تم تمديد فترة التوقيف لمدة يومين إضافيين بعد احتجازي لخمسة أيام لاستكمال التحقيق مع المصدر الأمني، وبعد مضي 7 أيام من التوقيف تم إحالتي للقطب القضائي بسيارات أمنية، واستمع قاضي التحقيق لإفادتي، وقرر إطلاق سراحي مع حجز هاتفي الشخصي وتحويله للفرقة الأمنية الفنية للتحقق من محتواه.
وأضاف "حقّقت الفرقة الأمنية المذكورة كذلك مع صحافية زميلة لي، ورئيس التحرير فيما يخص نفس الخبر موضوع احتجازي، ثم قررت النيابة العمومية بالقطب القضائي سماعهما كشاهدين. أنتظر الآن صدور قرار قضائي بناء على تقرير الفرقة الفنية، وأطالب بإنهاء القضية حيث أنني قمت أقوم بواجبي ولم أتجاوز القانون".
واستندت السلطات التونسية في توقيف الصحافيين واحتجازهم على توجيه تهم وتمديد توقيفهم تبعاً للتحقيقات، في حين أنها كانت تهدف على ما يبدو إلى معاقبتهم على اعتبار أن ما قاموا به هو غير مجرم في القوانين الناظمة للعمل الصحافي في تونس، وقد تم الاستعانة بالقوانين الجزائية لتوجيه تهم تحت طائلة تهديد الأمن القومي والإرهاب.
في حين أن الحقيقة تتجلى في اللحظة الأولى من الإفراج عن الصحافي المحتجز، لأن الهدف من الاحتجاز ليس التحقيق في قضايا أمن قومي، بل إنزال عقوبة حبس بدون حكم قضائي، بل بدواعي إجراءات التحقيق.
-
التحريض على الإعلام
مارَس الرئيس التونسي قيس سعيد التحريض على الصحافيين والمؤسسات الصحافية في مناسبات عدة، ما أعطى غطاءً للسلطات لتصعيد الانتهاكات ضد الصحافيين والمؤسسات الصحافية، حيث نفى الرئيس التونسي خلال اجتماعه برئيسة الحكومة نجلاء بودن في 10 يناير / تشرين الثاني 2022 وجود سجناء رأي في البلاد، واتهم وسائل الإعلام المحلية بتشويه الحقائق وتناول المسائل التافهة.
وسجَّل سعيد على نفسه موقفاً محرضة ضد الصحافة بذات الاجتماع من خلال تعليقه على تعامل الصحافة مع مسألة الاستفتاء الالكتروني حين قال "كلّ يوم يضعون على أعمدة الصُحف الاستفتاء الإلكتروني بين ظفرين، لو وضعوا أنفسهم بين ظفرين لكان أفضل".
كما قال إن هناك "لوبيات مالية" ضاغطة تقف وراء بعض وسائل الإعلام التي تكذب في نقل الأخبار مستشهداً بقول الشاعر مظفر النواب في إشارة إلى وسائل الإعلام قائلاً: "يكذبوا، يكذبوا، يكذبوا كنشرة الأخبار". [8]
وعزز سعيد منهج إقصاء الصحافة العالمية وإسكات الصحافية المحلية من خلال عدم دعوة وسائل الإعلام الخاصة والأجنبية لتغطية مؤتمره الصحافي مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في 15 ديسمبر / كانون الأول 2021، واقتصار التغطية على الصحافة التونسية مع فرض عدم توجيه أي أسئلة للرئيس التونسي وتوجيه الأسئلة للرئيس الجزائري فقط.
وارتبطت انتهاكات حقوق الصحافيين في تونس خلال الثمانية أشهر الأخيرة بمقاطعة شبه تامة من الرئيس التونسي قيس سعيد لوسائل الإعلام المحلية، مما وسَّع الفجوة بين الإعلام وبين الرئيس الذي يبدو أنّه يسير بخطى واضحة نحو إحكام السيطرة على كافة مفاصل الدولة.
ثالثًا: آثار استهداف العمل الصحافي على الصحافيات
دأبت الرئاسة التونسية منذ الإعلان عن التدابير الاستثنائية على وصم الصحافيين والمؤسسات الصحافية بالتراخي وعدم المهنية أحيانًا، وأحيانًا أخرى بتلقي تمويل من جهات معينة لتوجيه الرأي العام.
خلق هذا التوجه الرئاسي الخطير لدى السلطات الأمنية والتنفيذية أرضية خصبة لاستهداف وترهيب الصحافيين والمؤسسات الصحافية التي تضمنت تغطيتها انتقادًا للإجراءات الاستثنائية، وسلطت الضوء على ما تبعها من انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في تونس.
شملت حملات التشويه استهدافًا لافتًا للصحافيات من خلال التخوين والترهيب النفسي والتهديد، ونشطت جهات مقربة على ما يبدو من الرئيس التونسي والسلطة التنفيذية في استهداف صحافيات ومدونات على مواقع التواصل الاجتماعي، بسبب انتقادهن للإجراءات الرئاسية، ومطالباتهن باحترام المسار الديمقراطي وعدم إهدار المكتسبات التي حققها التونسيون بعد احتجاجات 2011.
وقد تركت هذه الانطباعات التي ساهمت الرئاسة والحكومة التونسية بتشكيلها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مجموعة من الآثار السلبية على الصحافيات يمكن إجمالها فيما يلي:
1- التشويه وإساءة السمعة: شَابَ عمل الصحفيات في تونس بعد الإعلان عن التدابير الاستثنائية صعوبات كثيرة كالتشويه المقصود لسمعتهن المهنية والاجتماعية ووصمهن بأسوأ الأوصاف التي تحض على النبذ الاجتماعي.
وطالت حملة التشويه صحافيات تناولن موضوع الإجراءات الاستثنائية بغير منظور الرئاسة التونسية، واستخدمت السلطات منصات التواصل الاجتماعي والكلمات المسيئة التي وجهت للصحافيات اللواتي تعرضن للتوقيف التعسفي.
وعلى اعتبار أنّ تونس من الدول العربية والمسلمة التي تحافظ على مجموعة الضوابط التي ترفض وصم المرأة بما يمس سمعتها المهنية أو الاجتماعية فقد باتت الصحفيات يعشن كابوسًا أساسه مهني ولكن انعكاساته تطال السمعة الشخصية والأسرية.
قد يتسبب هذا الأسلوب بتناقص نشاط الصحافيات المهني إلى حد كبير خشية من التعرض لمثل هذا النوع من المواقف التي تتنافى وأخلاقيات التعامل مع الصحافة.
وفي بعض الأحيان قد يدفع بأسر الصحافيات لممارسة ضغوط عليهنّ لوقف عملهن أو تعليقه لحين انتهاء الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد.
أياً كان العمل الذي تستهدفه حملات التشويه تلك بالقدح في شخصية الصحافيات المهنية والاجتماعية وصولاً إلى عزوفهن عن ممارسة دورهن المهني، فإن ذلك يعتبر انتهاكاً يجب وقفه والتراجع عنه، واحترام الخصوصية التي يجب أن تتمتع بها المرأة العاملة في المجالات ذات الصلة بالرأي العام.
2- الضغوطات النفسية: أفرزت البيئة الصعبة التي خلقتها الإجراءات اللاحقة على التدابير الاستثنائية ضغوطات نفسية وعصبية أثرت على عمل الصحفيات في تونس خوفاً من التعرض للوصم الاجتماعي بالانحياز أو عدم المهنية، أو العمل لصالح أجندات خارجية، وهي اتهامات كفيلة بإنهاء الحياة المهنية لأي صحافية، خاصة في ظل تحكيم القوانين العسكرية وقوانين مكافحة الإرهاب في التعامل مع الصحافيين ما يوحي بأن الأمر يمس بالأمن القومي التونسي، ما أجبر الصحافيات على العمل تحت وطأة تشويه السمعة الذي يمتد للأسرة ولا يقف عند حد الصحافي فقط.
هدفت السلطات التونسية على ما يبدو من خلال اتهام الصحافيين والمؤسسات الصحافية بعدم الموضوعية والمهنية في تناول الإجراءات الاستثنائية إلى إجبارهم على التفكير ملياً قبل تغطية الأحداث بما يخالف المنظور الرئاسي والحكومي، وكان هذا المسار واضحاً من خلال التحقيقات التي جرت مع الصحافيات اللواتي تم احتجازهن تعسفياً أو التهديد بمحاكمتهن بتهم الإخلال بالأمن القومي، ومحاولة إشاعة الأخبار الكاذبة.
وفي هذا الصدد قالت الصحفية وجدان بو عبد الله لفريق التقرير: "المحيط العام في تونس اليوم وللأسف غير ملائم لممارسة العمل الصحفي. وأصبح الصحافيون يمارسون نوعاً من الرقابة الذاتية خشية تعرضهم للمضايقات الرسمية أو المحاكمات، لا سيما بعد أن اعتقل بعضهم بالفعل. كتونسيين وصحافيين ذقنا طعم الحرية بعد 2011، ورغم الأزمات المتلاحقة منذ ذلك الوقت، إلا أنّ تونس افتكت عن جدارة مكسبا مهمًا هو حرية التعبير وحرية الصحافة، لكن هذا المكسب الثمين مهدد اليوم وبشكل جدي ومباشر.
3- عدم الاستقرار الوظيفي: خلَّف إغلاق مؤسسات صحافية وقنوات فضائية هاجسًا لدى الصحافيات العاملات في تلك المؤسسات، ولدى وسط الصحافيات بشكل عام خشية من فقد مصادر رزقهن في ظل الأوضاع المتوترة، وعدم وجود جهة قادرة على إنصاف الضحايا وفق أحكام الدستور والقوانين الناظمة لعمل الصحافة في تونس.
وينبع شعور الصحافيات بعدم الاستقرار الوظيفي من اتساع رقعة الحملة التي بدأت بإقالة مدراء قطاعات إعلامية رسمية وامتدت لتطال مؤسسات صحافية خاصة وعالمية، مما ولَّد هاجس عدم الأمان الوظيفي بعد تشكل قناعة بأن الصحافة التي تسير ضد تيار الرئاسة والحكومة ستكون عرضة للانتهاك أو الإغلاق، خاصة الصحافيات اللاتي يعملن عن بعد، أو اللواتي يعملن في إدارة محتوى المنصات الرقمية.
جدول زمني يتتبع أبرز الانتهاكات التي تعرض لها الصحافيون ووسائل الإعلام في تونس:
المصدر: النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين
الموقف القانوني
تراجعت حرية ممارسة الصحافة في تونس بعد إعلان الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 يوليو / تموز 2021 عن الإجراءات الاستثنائية وما تبعها من أوامر رئاسية، وشكلت مظاهر انتهاكات حقوق الصحافيين والمدونين منذ تموز/ يوليو 2021 انزلاقاً خطيراً نحو تقييد الحريات العامة، وفرض سياسة تكميم الأفواه، ونقلت الصحافة التونسية من مرحلة تطوير آليات التمتع بالحقوق إلى مرحلة اثبات وجودها والدفاع عنها.
- الدستور التونسي
كفل الدستور التونسي 2014 الحق في حرية الصحافة وفق ما ورد في نص الفصل 31 "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات."[9]
فيما أورد الفصل 32 حماية مفترضة للحق في الوصول إلى المعلومة في نصه: "تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال".[10]
لم تلتزم السلطات التونسية بتطبيق الحماية الخاصة التي أفردها المشرع في الدستور التونسي 2014 للحق في حرية الإعلام والنشر، ورغم تعطيل نصوص الدستور واستبدالها بالأوامر الرئاسية الاستثنائية كالأمر 117 الذي يؤكد في الفصل 20 من أحكامه الختامية " يتواصل العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع أحكام هذا الأمر الرئاسي". أي أن التدابير الاستثنائية أكدت على وجوب احترام الحريات العامة المحمية بموجب الدستور التونسي، إلا أن استمرار الانتهاكات يؤشر على أنّ الأحكام الدستورية الخاصة بالحريات العامة تتعارض مع الأوامر الرئاسي ما اقتضى تعطيلها واقعاً، لتتسق التدابير الاستثنائية مع الهدف من إصدارها المتمثل فيما يبدو بتركيز جميع السلطات في يد الرئيس سعيد دون ضوابط دستورية تمنعه من ذلك.
- القوانين الوطنية التونسية
سعت الأجسام التمثيلية للصحافة التونسية بعد احتجاجات 2011 لتسجيل مكتسبات خاصة بها، وقد تمثلت في إصدار رئيس الجمهورية المؤقت في حينه فؤاد المبزع المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، والمرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري، وقد دخل المرسومان حيز التنفيذ في 3 مايو / أيار 2013 بعد عام ونصف من إصدارهما ليعتبرا حجر الارتكاز القانوني المنظم لمهنة الصحافة في تونس.
وأفرد المرسوم عدد 115 لسنة 2011 فصولاً كاملة تحظر الاعتداء على الصحافيين وتحمي مصادرهم، وأحالت في معاقبة المعتدي على الصحافي إلى الفصل 123 من المجلة الجزائية بعقوبة الاعتداء على موظف شبه حكومي وفقا للآتي:
الفصل 11 ـ تكون مصادر الصحافي عند قيامه بمهامه ومصادر كل الأشخاص الذين يساهمون في إعداد المادة الإعلامية محمية، ولا يمكن الاعتداء على سرية هذه المصادر سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة إلا إذا كان ذلك مبرّرا بدافع ملح من دوافع أمن الدولة أو الدفاع الوطني وخاضعا لرقابة القضاء.
ويعتبر اعتداء على سرية المصادر جميع التحريات وأعمال البحث والتفتيش والتنصت على المراسلات أو على الاتصالات التي قد تتولاها السلطة العامة تجاه الصحافي للكشف عن مصادره أو تجاه جميع الأشخاص التي تربطهم به علاقة خاصة.
لا يجوز تعريض الصحافي لأي ضغط من جانب أي سلطة كما لا يجوز مطالبة أي صحفي أو أي شخص يساهم في إعداد المادة الإعلامية بإفشاء مصادر معلوماته إلا بإذن من القاضي العدلي المختص وبشرط أن تكون تلك المعلومات متعلقة بجرائم تشكل خطرا جسيما على السلامة الجسدية للغير وأن يكون الحصول عليها ضروريا لتفادي ارتكاب هذه الجرائم وأن تكون من فئة المعلومات التي لا يمكن الحصول عليها بأي طريقة أخرى.
الفصل 12 ـ لا يجوز أن يكون الرأي الذي يصدر عن الصحافي أو المعلومات التي ينشرها سببا للمساس بكرامته أو للاعتداء على حرمته الجسدية أو المعنوية.
الفصل 13 ـ لا تجوز مساءلة أي صحفي على رأي أو أفكار أو معلومات ينشرها طبقا لأعراف وأخلاقيات المهنة كما لا تجوز مساءلته بسبب عمله إلا إذا ثبت إخلاله بالأحكام الواردة بهذا المرسوم.
الفصل 14 ـ يعاقب كل من يخالف الفصول 11 و12 و13 من هذا المرسوم وكل من أهان صحفيا أو تعدى عليه بالقول أو الإشارة أو الفعل أو التهديد حال مباشرته لعمله بعقوبة الاعتداء على شبه موظف عمومي المقررة بالفصل 123 من المجلة الجزائية." [11]
ووضَّح المرسوم عدد 116 لسنة 2011 الاختصاصات الرقابية والتقريرية الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري وفقاً للآتي:
الفصل 15 ـ "تسهر الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري على تنظيم وتعديل الاتصال السمعي و البصري وفقا للمبادئ التالية :
ـ دعم الديمقراطية و حقوق الإنسان وسيادة القانون،
ـ دعم حرية التعبير و حمايتها،
ـ دعم قطاع الاتصال السمعي والبصري الوطني العمومي والخاص والجمعياتي وجودته وتنوعه،
ـ دعم حقوق العموم في الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام.
الفصل 16 ـ تتولى الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري:
-السهر على فرض احترام جميع السلطات والمؤسسات والأطراف المتدخلة للقواعد والأنظمة المنطبقة على قطاع الاتصال السمعي والبصري،
-البت في مطالب منح الإجازات المتعلقة بإحداث واستغلال منشآت الاتصال السمعي و البصري." [12]
ويتضح مما سبق، أنّ السلطات التونسية انتهكت عقب الإجراءات الرئاسية الاستثنائية الحقوق المحمية بموجب المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، إذ قامت بالاعتداء على الصحافيين جسدياً، واحتجازهم تعسفياً، ومست بكرامتهم على نحو خطير لمجرد قيامهم بواجباتهم المنوطة بهم مهنياً، وتجاوزت مسألة عدم جواز مساءلتهم بسبب الرأي والمعلومات التي ينشرونها لتصل إلى حد محاكمتهم أمام محاكم عسكرية، في انتهاك صارخ لكافة المبادئ القانونية المستقرة ولنصوص الدستور التونسي والقوانين الوطنية ذات العلاقة.
كما لوحظ تجاوز الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري حدود اختصاصها لتتحول من حامٍ ومدافع عن المؤسسات الصحافية إلى ما يشبه أداة عقابية، حين قامت بإغلاق قناة الزيتونة وإذاعة القرآن الكريم وقناة نسمة مخالفة مقصد نص الفصل 15 في بنده الرابع والذي ينص على "دعم حقوق العموم في الإعلام والمعرفة من خلال ضمان التعددية والتنوع في البرامج المتعلقة بالشأن العام".
ويتضح أيضًا من إفادات الصحافيين أنّ الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري تماطل في منح التراخيص اللازمة لعمل بعض القنوات، ما هيّأ أسباب اتخاذ الإجراءات ضد تلك المؤسسات بشكل مقصود، في مخالفة لما ورد في الفصل 16 "تتولى الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري البت في مطالب منح الإجازات المتعلقة بإحداث واستغلال منشآت الاتصال السمعي والبصري".
الاتفاقيات والمعاهدات الدولية
أولى القانون الدولي لحقوق الانسان أهمية خاصة لحرية التعبير والحق في النفاذ إلى المعلومات وتداولها، ويعتبر هذا الحق في ظل الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم وسهولة إبداء الرأي وتداول المعلومات عبر الفضاء الالكتروني من أكثر الحقوق تعرضاً للانتهاك، ولذلك فقد أعطت الصكوك الدولية الأساسية نصوص حماية صريحة لهذا الحق وفق الآتي:
أكد الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 على ضرورة حماية الدول للحق في التعبير، وتلقي المعلومات وتداولها دون قيود من خلال نص المادة 19 التي جاء فيها: " لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية"[13]
وشددت المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966 على الحق في حرية التعبير ". لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها." [14]
ونصت المادة 9 من الميثاق الإفريقي لحقوق الانسان والشعوب 1981 على: "من حق كل فرد أن يحصل على المعلومات. يحق لكل إنسان أن يعبر عن أفكاره وينشرها في إطار القوانين واللوائح." [15]
ولما كانت تونس دولة منضمة ومصادقة على كافة المواثيق الدولية والإقليمية السابقة، فإن إجراءات الرئيس قيس سعيد، وسلوك السلطات التونسية تجاه الصحافيين منذ الإعلان عن التدابير الاستثنائية في 25 يوليو / تموز 2021 تخالف بشكل واضح التزامات تونس بموجب هذه الاتفاقيات الدولية.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948 يصنف بأنه ميثاق شرفي، فإن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية 1966 يتمتع بالصفة الإلزامية، وكذا حال الميثاق الافريقي لحقوق الانسان والشعوب الذي استلزم في مادته الأولى موائمة التشريعات الوطنية للدول الأعضاء لحماية الحقوق كما في نصها: "تعترف الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية الأطراف في هذا الميثاق بالحقوق والواجبات والحريات الواردة فيه وتتعهد باتخاذ الإجراءات التشريعية وغيرها من أجل تطبيقها." [16]
بالإضافة إلى ذلك، فقد تجاهلت السلطات التونسية التزاماتها باحترام هذه النصوص التي تعنى بحماية حرية التعبير والصحافة والحق في النفاذ إلى المعلومات، وهذا ما يفسر تراجع تونس على مستوى التصنيف العالمي لحرية الصحافة إلى المرتبة 73 بعد أن كانت تحتل المركز 72 وفق تصنيف شبكة مراسلون بلا حدود الذي تم اعتماده في عام 2013، حيث بات انتهاك حقوق الصحافيين ظاهرة خطيرة استدعت علو أصوات دولية كثيرة، أدانت الانتهاكات وحثت الرئيس سعيد على احترام الحريات العامة والمحافظة على مكتسبات ثورة 2011.
في ضوء الانتهاكات التي وثّقها التقرير فيما يتعلّق بحقوق الصحافيين وحرية العمل الصحافي بعد الإجراءات الاستثنائية الرئاسية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو / تموز 2021، فإن المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان ومنظمة صحافيون لأجل حقوق الإنسان يوصيان بالآتي:
- إجراء تحقيق مستقل في جميع حوادث الاعتداء على الصحافيين والكيانات الصحافية، بما في ذلك حوادث الاعتداء الجسدي واللفظي والاحتجاز التعسفي واقتحام المؤسسات الصحافية، وتقديم المسؤولين عنها إلى العدالة، وضمان عدم إفلاتهم من العقاب.
- وقف إصدار القرارات التقييدية ضد الصحافيين والمؤسسات الصحافية، وإعادة فتح القنوات الفضائية، والإذاعات المغلقة بموجب قرارات الرئاسة التونسية والهيئة العليا المستقلة للاتصال البصري والسمعي.
- احترام الحق في حرية التعبير عن الرأي وحرية الصحافة، ووقف حملة التحريض الرسمية ضد الصحافيين والمدونين والمؤسسات الصحافية في تونس.
- وقف محاكمة الصحافيين أمام المحاكم العسكرية، وإحالة القضايا المنظورة أمامها إلى القضاء الطبيعي المختص بمحاكمة المدنيين، مع ضرورة توافر كافة ضمانات المحاكمة العادلة.
- سن قانون لتنظيم شؤون الصحافة وإلغاء كافة القوانين التي تتعارض مع حماية الصحافيين ولا تراعي حرية واستقلال الإعلام التونسي.
- احترام الدستور التونسي والقوانين الوطنية الناظمة للعمل الصحافي، وللمواثيق والصكوك الدولية والإقليمية الحامية لحقوق الصحافيين المصدق عليها من تونس.
التقرير كاملًا باللغة العربية
التقرير كاملًا باللغة الإنجليزية
التقرير كاملًا باللغة الفرنسية
[1] الفصل الخامس من المرسوم الرئاسي رقم 117/2021 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية.
[2] الفصل السابع من الأمر الرئاسي 117/2021 المتعلق بالإجراءات الاستثنائية.
[3] https://youtu.be/agacM69pR3U
[4] https://www.nessma.tv/ar/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9/actu/%D9%82%D9%86%D8%A7%D8%A9-%D9%86%D8%B3%D9%85%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A8%D9%8A%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%A7%D9%8A%D9%83%D8%A7/158422
[5] https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=5022876831069431&id=1179805552043264
[6] https://www.facebook.com/semir.dilou/posts/4969647893104904
[7] https://www.youtube.com/watch?v=Nzczisn9rcA
[8] https://www.youtube.com/watch?v=k-ViddnG3eg
[9] المادة 31 الدستور التونسي 2014.
[10] المادة 32 الدستور التونسي 2014.
[11] الفصول ( 11 ، 12 ، 13 ، 14 ) من مرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر.
[12] الفصل ( 15 ، 16 ) من والمرسوم عدد 116 لسنة 2011 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري وبإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري.
[13] المادة 19 الإعلان العالمي لحقوق الانسان 1948.
[14] المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية و السياسية 1966.
[15] المادة 9 من الميثاق الإفريقي لحقوق الانسان والشعوب 1981.
[16] المادة 1 الميثاق الإفريقي لحقوق الانسان والشعوب 1981.