انتقالًا من القدس الشرقية، ومرورًا بالضفة الغربية، ووصولًا إلى منطقة النقب أقصى الجنوب، تواصل السلطات الإسرائيلية عمليات التهجير القسري بحق الفلسطينيين لصالح المشاريع الاحتلالية دون هوادة أو مساءلة قانونية، بما يخالف التزاماتها بموجب القوانين الدولية ذات العلاقة.
منذ أغسطس/ آب 2021، تقتحم جرافات الصندوق القومي اليهودي (كيرن كييمت ليسرائيل-كاكال) على نحو متكرر القرى العربية غير المعترف بها حكوميًا في منطقة النقب جنوبي إسرائيل، وتدمر منازل الفلسطينيين وتجرف أراضيهم، تحت حراسة مشددة من الشرطة الإسرائيلية التي تمنع الفلسطينيين من إبداء أي اعتراض أو مقاومة من خلال نشرها عناصر مدججة بالأسلحة، ترافقها مركبات عسكرية وخيول وكلاب بوليسية.
أدت حملة العنف والقمع الإسرائيلية التي استخدمت فيها أيضًا طائرة مسيّرة، وفرق الخيالة، وسيارة رش المياه العادمة إلى اعتقال العشرات وإصابة نحو 15 من السكان بجروح متفاوتة، من بينهم نساء وأطفال ومسنين.
لم تكن هذه الانتهاكات تلقى تغطية تتناسب مع حجمها، أو حتى تضامنًا من المناصرين لحقوق الفلسطينيين، إلى أن قرر أهالي القرى البدوية في النقب بتاريخ 10 يناير/كانون ثان الاحتجاج على عمليات هدم منازلهم وتجريف أراضيهم بالإضراب والاعتصام، لمحاولة وقف الإجراءات الإسرائيلية التي يعتقدون أنّها تمهّد لتهجيرهم والاستيلاء على أراضيهم، بغرض توسعة المدن والبلدات الإسرائيلية، وهو ما سبق وجرى فعلًا بين الأعوام 2013 و2019 عندما هدمت القوات الإسرائيلية أكثر من 10,000 منزل بدوي في النقب، وأعلنت في عام 2019 عن خطة لتهجير 36 ألف فلسطيني قسرًا من قرى غير معترف بها حكوميًا إلى بلدات أخرى.
واجهت الشرطة الإسرائيلية احتجاجات السكان بالقوة المفرطة، إذ اعتدت عليهم بالرصاص المطاطي والهراوات والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع، واعتقلت عددًا منهم تعسفيًا، ولا سيما في ست قرى تمتد مساحتها على 45 ألف دونم، ويعيش عليها ما يقرب من 30 ألف فلسطيني من بدو النقب، وهي: بير المشاش والزرنوق وبير الحمام والغراء وخربة وطن والرويس، كما تركزت الاعتداءات في أراضي قرية سعوة-الرويس التابعة لعائلة الأطراش.
عرقلة مقصودة
ترى السلطات الإسرائيلية في غرس الأشجار في أراضي البدو الفلسطينيين أحد أهم أولوياتها القصوى في النقب، وتأتي ضمن خطط سلطة الأراضي الإسرائيلية، التي تدير الصندوق القومي اليهودي، وتنوي زراعة حوالي 45 ألف دونم في النقب بالأشجار "للحفاظ على المساحات المفتوحة والطبيعة من السيطرة غير القانونية"، دون أن تأخذ بعين الاعتبار مصير آلاف السكان الذين سيشردون ويصبحون بلا مأوى.
تزعم إسرائيل أن بدو النقب ليس لهم الحق في التصرف بهذه الأراضي، وبالتالي تمنعهم من الاستفادة منها، سواء بالسكن أو بالزراعة أو الحراثة أو تربية المواشي، وهو ما يزيد أوضاعهم بؤسًا، خاصةً أن هذه القرى تعاني في الأساس من فقر البنية التحتية وضعف الدعم الحكومي، حيث لا وجود لوسائل المواصلات والشوارع المعبدة والجسور، كما تغيب أبسط الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء.
تستهدف السلطات الإسرائيلية نحو 51 قرية عربية في النقب، لا تعترف بها، وتحول حياة سكانها إلى كابوس لا ينتهي، خاصةً فيما يتعلق بمعاملات تسجيل الأراضي. بين الأعوام 1970 و1979 فتحت إسرائيل المجال لبدو النقب لتسجيل طلبات ملكيتهم على أراضيهم وفق ما يُسمى بقانون تسوية الأراضي الذي سن عام 1969، وبالفعل قدم السكان طلبات لتسجيل مئات آلاف الدونمات، ولكن بعد أكثر من 40 عامًا لم تنظر السلطات في ملفاتهم ولم تحقق أي تقدم في قضاياهم منذ ذاك الوقت، ما يؤكد على تلكؤ إسرائيل في منح البدو العرب حقوقهم، ومحاولتها الاستيلاء على أراضيهم.
لا تتوانى الحكومة الإسرائيلية عن بناء تجمعات استيطانية وبلدات في النقب، في تعارض واضح مع قانون تسوية الأراضي الذي يمنع صراحة تحويل ملكية الأراضي التي تخضع لإجراءات تسجيل الملكية ومسألة ملكيتها لم تُحسم بعد.
في المقابل، لا تتوانى الحكومة الإسرائيلية عن بناء تجمعات استيطانية وبلدات في النقب، في تعارض واضح مع قانون تسوية الأراضي الذي يمنع صراحة تحويل ملكية الأراضي التي تخضع لإجراءات تسجيل الملكية ومسألة ملكيتها لم تُحسم بعد. ما يعني بكلمات أخرى، أن عمليات التحريش (زراعة الأشجار الحرشية) التي ينفذها "كاكال" في أراضي القرى العربية وتحويلها إلى ملكيته أو منحه حرية التصرف بها أمر غير قانوني، ويتنافى أيضًا مع قانون الغابات الإسرائيلي الذي يمنع تحريش أراض خاصة.
يضاف إلى ذلك، تعارض الممارسات الإسرائيلية الواضح مع "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، الذي صدّقت عليه إسرائيل عام 1991، والذي من المفترض أن تلتزم بموجبه باحترام الحق في السكن اللائق، ولا تنفذ عمليات الإخلاء القسري إلا في "الظروف الاستثنائية جدا"، مع ضرورة الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان والتشاور مع المتضررين، أفرادًا أو مجتمعات، وتحديد مصلحة عامة واضحة تتطلب الإخلاء، وضمان أن المتضررين لديهم فرصة حقيقية للطعن في عملية الإخلاء، وتقديم التعويض المناسب وأراض وترتيبات سكن بديلة كافية، وهي المعايير المفقودة بشكل شبه كامل في عمليات التهجير القسري التي تنفذه إسرائيل في النقب منذ عقود.
يمنع العهد الدولي أيضًا إسرائيل من التمييز ضد الأقليات فيما يتعلق بحقوق الأرض والسكن، وهذا البند تحديدًا يزيل كل الملامح القانونية عن عمليات تحريش الأراضي في النقب، إذ تدعي السلطات أن هدفها الرئيسي هو التنمية البيئية ولكن الغاية الحقيقية هي بناء مجتمع يهودي فوق أنقاض منازل وأراضي المجتمع البدوي الفلسطيني، في إطار سياسة الأسرلة والفصل العنصري التي تستمر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في ترسيخها.
وبكل أسف، تمارس إسرائيل سياساتها العنصرية دون أدنى مساءلة دولية، وفي طمأنينة بالغة بسبب تمتعها برصيد مفتوح من الإفلات من العقاب، فلم يسبق للمجتمع الدولي منذ قيام إسرائيل عام 1948 باتخاذ مواقف حاسمة تجاهها، دفعتها بشكل عملي لاحترام حقوق الفلسطينيين والتوقف عن اضطهادهم وممارسة مختلف أنواع الانتهاكات بحقهم.
لا يمكن تبرير طرد السكان من منازلهم وتجريدهم من ممتلكاتهم بالكامل، بالتنمية الاقتصادية أو برامج التحديث البيئية، دون توفير ضمانات قانونية أو معيشية بالحد الأدنى، فما قيمة هذه المشاريع إن كانت مبنية على مخططات عنصرية تشبه إلى حد كبير عمليات التطهير العرقي؟