يقوم المجتمع الصحي على النشاط والتضامن والرعاية، ولقد عرفت أوروبا العديد من التحركات المدنية التي نبعت من شعور التضامن الإنساني، وساهمت في تغيير سياسات وحكومات القارة الأوروبية. ولكن على نحو معاكس، يهيمن في الوقت الحالي نمط واسع من الترهيب والقمع لعرقلة وتجريم ووصم المساعدة الإنسانية للمهاجرين.
قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، عندما كان من المستحيل تقريبًا الفرار من بلد ما، كانت أوروبا ما تزال تشهد تحركات جماعية للناس بفضل عدد لا يحصى من المواطنين العاديين، غير معروفين في الغالب، ممن تحملوا مسؤوليات لا تقدر بثمن لإنقاذ آلاف الأرواح. وبالمثل، خلال الحرب الباردة، عندما حدثت هجرة جماعية من أوروبا الشرقية باتجاه الغرب، كان تهريب المواطنين، وخاصة لعبور جدار برلين، ممارسة شائعة.
يغير الوقت والسياسة والظروف الاجتماعية والاقتصادية الطريقة التي يُنظر بها إلى المدافعين عن حقوق الإنسان وكيف سيتم تصويرهم كأبطال أم كمجرمين.
في الوقت الحاضر، تشهد أوروبا أكبر تعبئة مدنية في تاريخها الحديث. منذ ظهور ما يسمى بـ "أزمة اللاجئين"، ظهرت مجموعات عفوية وأخرى منظمة في جميع أنحاء أوروبا لمساعدة الأشخاص المتنقلين، من خلال المساعدة الإنسانية وعمليات البحث والإنقاذ والرعاية الطبية والمناصرة أو المساعدة القانونية.
نظرًا لفشل السياسيين الأوروبيين في الوفاء بالتزاماتهم القانونية والإنسانية، استجاب مواطنوهم لملء الفجوات وإدانة تجريد الأشخاص من إنسانيتهم باسم ضوابط الهجرة.
لكن في السنوات الأخيرة، لم يتلق هؤلاء المدافعون عن حقوق الإنسان دعمًا خاصًا أو امتنانًا أو مساعدة مالية من السلطات، بل على العكس، فقد تعرضوا لمحاكمات قضائية لا أساس لها، واعتقالات تعسفية، وتحقيقات، وقيود لا داعي لها على أنشطتهم، بالإضافة للترهيب والمضايقات، وحملات التشهير في جميع أنحاء أوروبا.
بينما ما تزال جائحة فيروس كورونا في أوجها، وهي التي أحيت روح المساعدة والتعاون بين الناس وخصوصًا الأشخاص الأكثر ضعفاً وتهميشاً، ما يزال هناك خطاب سام يعمل على تشويه سمعة طالبي اللجوء والنشطاء الذين يساعدونهم.
قبل بضعة أيام، في الأول من مارس جرت عملية واسعة للشرطة في جميع أنحاء إيطاليا ضد منظمة "ميديتيرانيا سايفنج هيومنز" (Mediterranea Saving Humans) غير الحكومية، إذ قامت الشرطة بالبحث في مكاتب المنظمة ومنازل أعضائها الخاصة، والاستيلاء على سفينة "ماري يونيو" (Mare Jonio) الخاصة بالمنظمة واتهامها بجني الأرباح من عمليات البحث والإنقاذ في البحر.
نفذت الشرطة الإيطالية عملية أخرى، وبالتحديد في 23 فبراير 2021، في مدينة تريستا، بالقرب من الحدود مع سلوفينيا، ضد الناشطين" لورينا فورناسير" و"جيان أندريا فرانشي"، مؤسسا منظمة " لا لينيا دي أومبرا"، التي تجمع الأموال لدعم المهاجرين المحتاجين، حيث داهمت الشرطة منزلهم وصادرت هواتفهم المحمولة وأجهزة الكمبيوتر المحمولة الخاصة بهم وكذلك دفاتر منظمتهم وغيرها من المواد، متهمة إياهم بالمساعدة والتحريض على الهجرة غير الشرعية.
وبالمثل، في سبتمبر/ أيلول 2020، تعرّضت الناشطة البوسنية في حقوق المهاجرين "زهيدة بيهوراك" إلى مضايقات على يد أعضاء شركة أمنية خاصة، إذ وجح المهاجمون -المعروفون بسلوكهم العنيف تجاه المهاجرين والمتطوعين على حد سواء- الشتائم والتهديدات لبيهوراك، ووصفوها أنها "خائنة لبلدها" بعد تصويرها وملاحقتها.
هذه بعض الحالات الأخيرة من بين مئات الحالات التي تعرّض فيها المدافعون عن حقوق الإنسان للاعتقال أو المضايقة أو التحقيق خلال السنوات القليلة الماضية في جميع أنحاء أوروبا. في معظم القضايا، لم يتم العثور على أي دليل للإدانة، ما يشير إلى أن هذا الاستهداف هو في الأساس أداة سياسية لردع التضامن، وخلق بيئة معادية للمهاجرين وإثارة شعور عام بالريبة والخوف والترهيب داخل المجتمع المدني.
هذه التحقيقات المضللة و"تجريم التضامن" العام يغذي الصورة الزائفة لطالبي اللجوء كمجرمين وللنشطاء كأفراد غامضين يحاولون الاستفادة من تدفقات الهجرة والتواطؤ مع المهربين. إذ غالبًا ما يرفض السياسيون ووسائل الإعلام في خطاباتهم التمييز بين تهريب الأشخاص وأعمال التضامن البسيطة.
لكن هذا الغموض ينبع من الإطار القانوني الأوروبي نفسه، ففي حين أنّ بروتوكول الأمم المتحدة لمكافحة تهريب المهاجرين يلزم وجود عنصر ربحي لتصنيف السلوك على أنّه محاولة للتهريب ولفرض جريمة جنائية. في أوروبا، وفقًا لحزمة التسهيلات لعام 2002، يعتبر تسهيل الدخول جريمة حتى بدون نية تحقيق الربح في 24 دولة من أصل 28 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك، في عام 2018، وجه البرلمان الأوروبي بإعداد دراسة حول مختلف أشكال وحالات تجريم التضامن في الاتحاد الأوروبي وأصدر قرارًا بشأن "المبادئ التوجيهية للدول الأعضاء لمنع تجريم المساعدة الإنسانية"، وشدد على أنه لا ينبغي تجريم أعمال المساعدة الإنسانية. ودعا الدول الأعضاء إلى ضمان عدم مقاضاة الأفراد ومنظمات المجتمع المدني التي تساعد المهاجرين لأسباب إنسانية.
في السنوات الثلاث الماضية، لم توقف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تجريم التضامن أو التشهير بالمدافعين عن حقوق الإنسان، الذين يخاطرون بحياتهم أحيانًا لمساعدة الآخرين، كما تفعل السيدة بيهوراك.
ومع ذلك، وفي نفس الوقت، تم إنقاذ الآلاف من المهاجرين ومساعدتهم من قبل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، وتم تطوير رابطة قوية بين المواطنين الأوروبيين ذوي التفكير المماثل. فعلى سبيل المثال، بعد أن داهمت الشرطة منزل كلا من فورناسير وفرانشي، ظهرت حملات لجمع التبرعات والتضامن لدعمهما، ليس فقط في جميع أنحاء إيطاليا ولكن أيضًا في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مثل ألمانيا وفرنسا. مثلما حدث خلال القرن العشرين، عندما كانت الحكومات غير قادرة أو غير راغبة في الاستجابة بسرعة وفعالية، يتدخل المجتمع المدني لضمان وصول الناس إلى الحقوق الأساسية.