جميعنا بتنا ندرك أنّ أزمة جائحة كورونا وتداعياتها على دول العالم، ألقت بظلالها على حالة حقوق الإنسان، فالأولويات تغيرت وما كان حقاً منشوداً لتحقيقه بات اليوم وبفعل كورونا في آخر سلم الحقوق الأكثر إلحاحاً لتحقيقها ولحمايتها أيضاً.
الأردن مثله مثل باقي دول العالم اليوم، يواجه أزمة مصيرية في مواجهة فيروس يمس بشكل مباشر في حقين أصيلين: الحق في الحياة، والحق في الصحة، وتتجه كافة الجهود الرسمية الأردنية لحماية هذين الحقين، واعتبارهما أولوية عن باقي الحقوق التي طالما كانت عناويناً يسعى حقوقيون جاهدون لتحقيقها.
لا يعني تكريس الجهود الرسمية الأردنية لحماية الحق في الحياة والحق في الصحة أنه خطوة في الاتجاه غير الصحيح، بالعكس هي خطوة رحب بها مدافعون عن حقوق الإنسان في الأردن، بل اتجهوا أيضاً لتقديم الدعم والمساعدة في تلك الجهود، بيد أنه وفي الوقت الذي أصبحت فيه أزمة كورونا واقعًا أكثر مما كان متوقعاً بأنها غيمة وستمر، أصبح من الضروري ألا تبقى سيطرة هذا الفيروس وتأثيره على مناحي الحياة، سببًا أو "حجة" لتجاهل باقي الحقوق غير الحق في الحياة والحق في الصحة.
في قراءة سريعة للتحولات التي مسّت حقوقًا مهمة في الأردن جراء أزمة فيروس كورونا، نكتشف أنّ أول الحقوق التي تضررت هو الحق في حرية الصحافة والإعلام، فمنذ بداية ظهور الفيروس في البلاد وتنفيذ قرارات أوامر قانون الدفاع التي أقرتها الحكومة الأردنية والتي استهلت بفرض حظر التجول، كانت هناك رؤية للحكومة بأن تتوحد الرواية الإعلامية المتعلقة بالفيروس من خلال إيجاز صحفي يبث مساء كل يوم على شاشات القنوات الرسمية والخاصة.
هذه الرؤية لم يعترض عليها أغلب الإعلاميين في الأردن، بل اعتبروا تقبلها واجبًا وطنيًا يستلزم الالتفاف حول الجهود الرسمية لمواجهة الفيروس، وخطوة تمنع انتشار الإشاعة والمعلومات المغلوطة والتي من شأنها أن تبث الهلع والريبة لدى المواطنين.
لكن مع مرور أكثر من خمسين يوماً على حظر التجول في الأردن، بات من غير المنطقي استمرار توحيد الرواية الإعلامية الرسمية وحصرها لقنوات ووسائل إعلامية محددة، لاسيما أن ذلك أثر على محتوى باقي الوسائل الإعلامية أهمها الصحف الورقية التي باتت اليوم تواجه أزمة اقتصادية حساسة، من جراء تبعات حظر التجول وصعوبة إصدار نسخها الورقية والاكتفاء بالنسخ الإلكترونية، إضافة إلى حرمان إعلاميين من معلومات تتعلق بتطورات أزمة كورونا ما يعني اعتداء على حقهم في الحصول على المعلومات.
ليست حرية الإعلام فقط كحقوق تضررت اليوم في الأردن منذ أزمة كورونا، حتى الحقوق العمالية شابها ما شاب من الانتهاك والضرر، سواء من خلال استغلال أصحاب العمل للظروف الاستثنائية وتسريحهم لعاملين، أو من خلال ضعف في التشريعات التي تحمي العمال من التعرض لأرزاقهم في مثل هذه الظروف، ولعل أزمة عمال المياومة في الأردن والضرر الاقتصادي الذي لحق بهم خير دليل.
أين قضية المعتقلين الأردنيين في السجون الإسرائيلية اليوم؟ هي أيضاً قضية حقوقية إنسانية غابت تماماً بفعل الانشغال بتداعيات كورونا على الأردن، رغم أنّ اللجان الأردنية المدافعة عن حقوق المعتقلين الأردنيين ومنذ بدء أزمة كورونا خاطبت الجهات الرسمية للتدخل الطارئ للاطلاع على وضع المعتقلين الذين يعانون سوء الرعاية الصحية ويقبعون في سجون تُعدّ بؤرة لانتشار الوباء.
حتى قضية أبناء الأردنيات وهي قضية حقوقية نسوية، لم تحظ بالاهتمام الذي تستحقه رغم أن هناك ضرراً وتهديداً على صحة أبناء وبنات أردنيات عالقين في دول ينتشر فيها فيروس كورونا على نطاق واسع، فاليوم أبناء وبنات الأمهات الأردنيات محرومون من شمولهم بالتسهيلات التي أقرتها الحكومة الأردنية لعودة الطلبة الأردنيين العالقين في الخارج.
لن أتطرق إلى الحق الأصل وهو الحق في حرية الرأي والتعبير، إذ أجد أنه من المبكر الحديث عنه رغم أنه طاله ما طال من الانتهاك والتضييق جراء قرارات أوامر قانون الدفاع، ولكني أجد أنّ هناك أمر أكثر أولوية منه اليوم خلال أزمة كورونا وهو ظروف الاحتجاز في مراكز التوقيف.
أكثر من شكوى خرجت هنا وهناك عن محتجزين خرقوا أوامر قانون الدفاع وتم توقيفهم لأيام قليلة في مراكز التوقيف "النظارة"، تحدثت تلك الشكاوى عن غياب البيئة الوقائية داخل غرف الاحتجاز، إذ أنّ هناك غرفًا بمساحات صغيرة يتواجد بها أكثر من 20 موقوفًا، ويُمنع إدخال المواد الوقائية مثل "الهاي جين" والكحول الطبية لتلك الغرف.
من غير الإنصاف أن يتجه اللوم فيما يتعلق بالتهديد الذي يمس حقوق أصيلة في الأردن اليوم بفعل كورونا على الحكومة الأردنية، فمؤسسات المجتمع المدني والمراكز الحقوقية أيضاً تتحمل جزءًا من العتاب بسبب غياب دورها في مواجهة تلك التهديدات، صحيح أن ظروف أوامر قانون الدفاع تقيّد حركتهم وعملهم على الأرض، لكن بات من الضروري وبما أن كورونا أصبحت واقعًا وليس غيمة، أن تعود تلك المؤسسات للوقوف على قدميها من جديد واتخاذ خطوات فعلية لممارسة دورها وواجبها.
الحق في الحياة والحق في الصحة حقوق سامية وتصدرت أيضًا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بيد أن العدالة هي الأساس، ولا تتحقق إلا بإنصاف حماية منظومة حقوق الإنسان بشكل كامل، فكفانا حججاً!