بعد مرور تسع سنوات على ما سمي بـ"الربيع العربي"، حيث اجتاحت الاحتجاجات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مسعى لإنهاء الاستبداد واحترام حقوق الإنسان، أصبحت الحقوق المدنية وحقوق الإنسان في خطر أكثر من أي وقتٍ مضى.

إذ أن الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة تنخرط في حروب طائفية شرسة من أجل السيطرة (سوريا، واليمن، وليبيا)؛ وهي أكثر استبداداً من أي وقت مضى (مصر، المملكة العربية السعودية)؛ أو تستمر في استعمار السكان والسيطرة عليهم بالاستعانة بوسائل أقل للدفاع عن أنفسهم (إسرائيل مع الفلسطينيين، أو المغرب في الصحراء الغربية). وحين تندلع ثورات مدنية جديدة كما حدث في السودان والجزائر، تقاتل النخبة العميقة لصد الديمقراطية الشعبية.

وقد تسبب عدم الاستقرار والقمع الناتج عن ذلك في جعل منظمات المجتمع المدني التي تدعو عادة إلى حقوق الإنسان هشة ومفتتة.

مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الذي تم تفويضه للعمل كمراقب عالمي، دعا الحكومات التي تتجاهل الاتفاقيات إلى ضرورة تبنيها من أجل حماية الناس. ولكن هذا العمل، الذي انخرط فيه مكتب المفوضية بكثافة منذ عام 2002، لم يسفر إلا عن انتصارات طفيفة.

الواقع أن منظمة فريدم هاوس الدولية غير الحكومية وجدت في تقريرها الأخير أن الديمقراطية تواجه أشد أزماتها خطورة منذ عقود من الزمان، فضلاً عن أن المبادئ الأساسية ــ بما في ذلك ضمانات الانتخابات الحرة النزيهة، وحقوق الأقليات، حرية الصحافة وسيادة القانون – تقع تحت الهجوم في جميع أنحاء العالم. تقرير المنظمة أشار إلى أن بين الدول التسعة التي تبين أنها "الأسوأ"، هناك خمسة بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

وعلى هذا فلابد من البحث عن خطوط جديدة للتحرك من أجل دعم الجهود الجارية التي تبذلها المفوضية السامية لحقوق الإنسان، فضلاً عن الاستفادة من حاجة الحكومات إلى تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال زيادة العائدات المحلية التي لا تعتمد على تدفقات المساعدات الخارجية.

وينبغي لهذه الاستراتيجية الجديدة أن تركز على دفع الشركات إلى إدراج التركيز على حقوق الإنسان إلى جانب الأرباح.

الأعمال التجارية الأمل في النمو

على مدى أكثر من نصف قرن، استمرت الظروف الاقتصادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في التحسن، على الرغم من فترات الاضطرابات الشديدة.

ورغم أن القطاع الخاص يظل خاضعاً لهيمنة الشركات العائلية التي عادة ما تكون مرتبطة بنظم الحكم، إلا أنه يمثل أكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي في المنطقة.

ووفقاً لتقديرات مؤسسة التمويل الدولية فإن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم ــ الشركات الشابة والشركات البادئة ــ تخلق أربع من كل خمس وظائف رسمية جديدة في الأسواق الناشئة. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تمثل المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم ما بين 80 و90 في المائة من جميع الأعمال التجارية في القطاع الرسمي.

في عام 2011، وضع مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مبادئ توجيهية لمنع ومعالجة الانتهاكات المرتكبة في العمليات التجارية. وقد أيدت خمسة بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا القرار أو شاركت في تقديمه هي الأردن، والبحرين، وتركيا، وقطر، والمملكة العربية السعودية.

والواقع أن هذه "المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان" تقدم تفاصيل حول الكيفية التي يتعين بها على الحكومات والشركات أن تنفذ هذا الإطار.

ومن بين الركائز الثلاث التي تقوم عليها هذه المبادئ التوجيهية هي مسؤولية القطاع الخاص عن احترام حقوق الإنسان. من خلال هذه السلسلة من المبادئ فإنه يتعين على الشركات أن تحترم حقوق الإنسان وتتصرف بالعناية الواجبة لمنع الانتهاكات ومعالجة التأثيرات السلبية.

وفي حين أن تلك المبادئ التوجيهية لا تخلق التزامات قانونية جديدة للدول، فإنها تشير إلى متطلبات الدول القائمة بموجب القانون الدولي وتستمد منها.

هذا التركيز على المبادئ التوجيهية كتطبيقات من الشركات على الأرض يمكن أن يسهم على أرض الواقع في رفع حقوق الانسان في المنطقة بوجه عام وأن يتداخل معها.

ففي شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي على سبيل المثال، نظم أكثر من 1400 موظف في شركة الزامل السعودية احتجاجاً بعد اقتطاع رواتبهم. وفي المقابل، قامت الشركة بحبسهم وطلبت من قوات الأمن السعودية تفريق العمال وإلقاء القبض عليهم.

فالمملكة العربية السعودية، مثلها في ذلك كمثل العديد من الدول الأخرى في المنطقة، تحظر المظاهرات العامة، وتحد بشدة من الحق في التفاوض والتنظيم.

ولكن بسبب تدخل وزارة العمل في الفلبين، اضطرت الشركة لدفع رواتب العاملين ودفع أجور السفر جواً إلى ديارهم. وقد شهدت وزارة العمل السعودية الاتفاق وتعهدت بالتمسك به، وهو ما شكل داعماً للاعتقاد المتزايد بأن الضغط على الشركات لاحترام وتسهيل حرية التعبير والتجمع السلمي من شأنه أن يساهم بشكل إيجابي - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - في حقوق الإنسان التي تطبق على المستوى العام للدولة.

ومن المظاهر الأخرى التي يمكن الاستدلال بها، الإنترنت وشركات الخدمات المرتبطة به، ففي حين أن استخدام الإنترنت وخاصة الهواتف المحمولة ينمو بسرعة في جميع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تخشى معظم سلطات الدول من إمكانات التواصل الاجتماعي والسياسي لديها. نتيجة لذلك، تشارك الحكومات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ممارسات الرقابة والحجب بدرجات متفاوتة. وهذا يضع مزودي خدمة الإنترنت في المرمى.

مثال على ذلك: من بين 66 مشغلاً للهواتف النقالة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لم يفصح سوى 14 مشغلاً عن شروط الخدمة، وسبعة فقط من المشغلين عن سياسات الخصوصية العامة لديهم. وعندما يتم نشر هذه المعلومات، فإنها لا تكون متاحة في أغلب الأحيان باللغة الأصلية لأغلب المستخدمين أو تُكتب على مستوى مناسب لتعليم العملاء.

وليس من المستغرب إذن أن تسعى الدول القمعية غالباً إلى تسخير شركات تقديم خدمات الإنترنت لحملاتها لمراقبة المواطنين، والتحكم في خطابها، وتقييد قدرتها على التنظيم والشبكات.

على سبيل المثال، فإن شركة أورانج، وهي شركة كبرى تابعة لشركة الإنترنت في الأردن، واحدة من عدد من الشركات التي ساعدت الحكومة في فرض إجراءات صارمة على حرية التعبير. وباعتبارها المصدر الرئيسي للإنترنت في البلاد، فقد ساعدت في فرض الرقابة على حرية التعبير من خلال الالتزام بإغلاق الحكومة المؤقت لما يقارب من 300 موقع إخباري على شبكة الإنترنت. وكما خلصت منظمة "شراكة الميزانية الدولية" فإن الشفافية تسير جنباً إلى جنب مع الديمقراطية.

مسؤولية تحدي السياسات القمعية من قبل الشركات

يمكن معالجة عدد كبير من الانتهاكات الأساسية لحقوق الإنسان، مثل العنصرية والتمييز وتقييد حرية التعبير والتجمع السلمي، بشكل استباقي إذا تحملت الشركات مسؤولية دعم هذه الحقوق المدنية وحمايتها، حتى من الانتهاكات التي ترتكبها حكوماتها. فالشركات قادرة في حالات كثيرة على الرفض القانوني للأوامر التي تنتهك العهود الدولية والالتزامات التي تشرعها الحكومات. لكن معظم الشركات لم يفشل في ذلك فحسب، بل يساهم أيضًا في ممارسات الحكومات القمعية.

 

إن الشركات التي تختار الامتثال للمبادئ التوجيهية التي تحكم العدالة والمساواة ــ على سبيل المثال، تلك التي تحمي المساواة في الأجر بين الرجال والنساء ــ من شأنها أن تساعد في الأمد البعيد على ترسيخ قواعد إيجابية تجاه حقوق الإنسان. لعبهم لدر قيادي في الامتثال لتلك المبادئ سيسفر في النهاية إلى تحول تلك الممارسات إلى معايير تنتشر في المجتمع.

وعلى النقيض من هذا، سوف تظل السياسات التمييزية قائمة ما دامت الشركات تغض الطرف عن حقوق عملائها واحتياجاتهم.

لقد أصبح دور القطاع الخاص الآن في غاية الأهمية نظراً لسجله الرهيب في مجال حقوق الإنسان في المنطقة حتى الآن: فقد أثبتت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مقاومتها لتبني المعايير الدولية لحقوق الإنسان، كما فشل ما يسمى بالمجتمع الدولي في المحاسبة على خرق هذه المعايير.

حان الوقت الآن لتجربة نهج مختلف والدعوة إلى تنفيذ المبادئ التوجيهية للأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، حتى ولو فشلت حكومات هذه البلدان في التوقيع أو التصديق على المعاهدات الدولية.

يقال إن المال يجعل العالم يدور، دعونا نحول ذلك إلى قوة للخير.